عندما حاصر الصليبيون مدينة في الأندلس استغاث إهلها بسلطان المغرب وأوفدوا إليه هذه الرسالة التي نظمها أبا عبدالله ابن الأبار القضاعي صاحب كتاب التكملة وأعتاب الكتاب وغيرهما فقام بين يدي السلطان منشدا قصيدته السينية الفريدة التى فضحت من باراها وكبا دونها من جاراها وهي
( أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ** إن السبيل إلى منجاتها درسا )
( وهب لها من عزيز النصر ما التمست ** فلم يزل منك عز النصر ملتمسا )
( وحاش مما تعانيه حشاشتها ** فطالما ذاقت البلوى صباح مسا )
( يا للجزيرة أضحى أهلها جزرا ** للحادثات وأمسى جدها تعسا )
( في كل شارقة إلمام بائقة ** يعود مأتمها عند العدا عرسا )
( وكل غاربة اجحاف نائبة ** تثني الأمان حذارا والسرور أسى )
( تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم ** إلا عقائلها المحجوبة الأنسا )
( وفي بلنسية منها وقرطبة ** ما ينسف النفس أو ما ينزف النفسا )
( مدائن حلها الإشراك مبتسما ** جذلان وارتحل الإيمان مبتئسا )
( وصيرتها العوادي العائثات بها ** يستوحش الطرف منها ضعف ما أنسا )
( فمن دساكر كانت دونها حرسا ** ومن كنائس كانت قبلها كنسا )
( يا للمساجد عادت للعدا بيعا ** وللنداء غدا أثناءها جرسا )
( لهفي عليها إلى استرجاع فائتها ** مدارسا للمثاني أصبحت درسا )
( وأربعا نمنمت أيدي الربيع لها ** ما شئت من خلع موشية وكسا )
( كانت حدائق للأحداق مونقة ** فصوح النضر من أدواحها وعسا )
( وحال ما حولها من منظر عجب ** يستجلس الركب أو يستركب الجلسا )
( سرعان ما عاث جيش الكفر واحربا ** عيث الدبا في مغانيها التي كبسا )
( وابتز بزتها مما تحيفها ** تحيف الأسد الضاري لما افترسا )
( فأين عيش جنيناه بها خضرا ** وأين عصر جليناه بها سلسا )
( محا محاسنها طاغ أتيح لها ** مانام عن هضمها حينا ولا نعسا )
( ورج أرجاءها لما أحاط بها ** فغادر الشم من أعلامها خنسا )
( خلا له الجو فامتدت يداه إلى ** إدراك مالم تطأ رجلاه مختلسا )
( وأكثر الزعم بالتثليث منفردا ** ولو رأى راية التوحيد ما نبسا )
( صل حبلها أيها المولى الرحيم فما ** أبقى المراس لها حبلا ولا مرسا )
( وأحي ما طمست منها العداة كما ** أحييت من دعوة المهدي ما طمسا )
( أيام صرت لنصر الحق مستبقا ** وبت من نور ذاك الهدي مقتبسا )
( وقمت فيها بأمر الله منتصرا ** كالصارم اهتز أو كالعارض انبجسا )
( تمحو الذي كتب التجسيم من ظلم ** والصبح ماحية أنواره الغلسا )
( وتقتضي الملك الجبار مهجته ** يوم الوغى جهرة لا ترقب الخلسا )
( هذي رسائلها تدعوك من كثب ** وأنت أفضل مرجو لمن يئسا )
( وافتك جارية بالنجح راجية ** منك الأمير الرضى والسيد الندسا )
( خاضت خضارة يعليها ويخفضها ** عبابه فتعاني اللين والشرسا )
( وربما سبحت والريح عاتبة ** كما طلبت بأقصى شدة الفرسا )
( تؤم يحيى بن عبد الواحد بن أبي ** حفص مقبلة من تربه القدسا )
( ملك تقلدت الأملاك طاعته ** دينا ودنيا فغشاها الرضى لبسا )
( من كل غاد على يمناه مستلما ** وكل صاد إلى نعماه ملتمسا )
( مؤيد لو رمى نجما لأثبته ** ولو دعا أفقا لبى وما احتبسا )
( تا لله إن الذي ترجى السعود له ** ماجال في خلد يوما ولا هجسا )
( إمارة يحمل المقدار رايتها ** ودولة عزها يستصحب القعسا )
( يبدي النهار بها من ضوئه شنبا ** ويطلع الليل من ظلمائه لعسا )
( ماضى العزيمة والأيام قد نكلت ** طلق المحيا ووجه الدهر قد عبسا )
( كأنه البدر والعلياء هالته ** تحف من حوله شهب القنا حرسا )
( تدبيره وسع الدنيا وما وسعت ** وعرف معروفه واسى الورى وأسا )
( قامت على العدل والإحسان دولته ** وأنشرت من وجود الجود ما رمسا )
( مبارك هديه باد سكينته ** ماقام إلا إلى حسنى وما جلسا )
( قد نور الله بالتقوى بصيرته ** فما يبالي طروق الخطب ملتبسا )
( برى العصاة وراش الطائعين فقل ** في الليث مفترسا والغيث مرتجسا )
( ولم يغادر على سهل ولا جبل ** حيا لقاحا إذا وافيته بخسا )
( فرب أصيد لا تلفي به صيدا ** ورب أشوس لا تلقى له شوسا )
( إلى الملائك ينمى والملوك معا ** في نبعة أثمرت للمجد ما غرسا )
( من ساطع النور صاغ الله جوهره ** وصان صيقله أن يقرب الدنسا )
( له الثرى والثريا خطتان فلا ** أعز من خطتيه ما سما ورسا )
( حسب الذي باع في الأخطار يركبها ** إليه محياه أن البيع ما وكسا )
( إن السعيد امرؤ ألقى بحضرته ** عصاه محتزما بالعدل محترسا )
( فظل يوطن من أرجائها حرما ** وبات يوقد من أضوائها قبسا )
( بشرى لعبد إلى الباب الكريم حدا ** آماله ومن العذب المعين حسا )
( كأنما يمتطي واليمن يصحبه ** من البحار طريقا نحوه يبسا )
( فاستقبل السعد وضاحا أسرته ** من صفحة فاض منها النور وانعكسا )
( وقبل الجود طفاحا غواربه ** من راحة غاص فيها البحروانغمسا )
( يا أيها الملك المنصور أنت لها ** علياء توسع أعداء الهدى تعسا )
( وقد تواترت الأنباء أنك من ** يحيي بقتل ملوك الصفر أندلسا )
( طهر بلادك منهم إنهم نجس ** ولا طهارة مالم تغسل النجسا )
( واوطىء الفيلق الجرار أرضهم ** حتى يطأطىء رأسا كل من رأسا )
( وانصر عبيدا بأقصى شرقها شرقت ** عيونهم أدمعا تهمي زكا وخسا )
( هم شيعة الأمر وهي الدار قد نهكت ** داء متى لم تباشر حسمه انتكسا )
( فاملأ هنيئا لك التأييد ساحتها ** جردا سلاهب أو خطية دعسا )
( واضرب لها موعدا بالفتح ترقبه ** لعل يوم الأعادي قد أتي وعسى )
فبادر السلطان بإعانتهم وشحن الأساطيل بالمداد إليهم من المال والأقوات والكسى فوجدوهم في هوة الحصار إلى أن تغلب الطاغية على بلنسية ورجع ابن الأبار بأهله إلى تونس وكان تغلب العدو على بلنسية صلحا يوم الثلاثاء السابع عشر لصفر من سنة ست وثلاثين وستمائة فهزت هذه القصيدة من الملك عطف ارتياح وحركت من جنانه أخفض جناح ولشغفه بها وحسن موقعها منه أمر شعراء حضرته بمجاوبتها فجاوبها غير واحد وحال العدو بين بلنسية وبينه وتعاهد أهلها مع النصراني على أن يسلمهم في أنفسهم وذلك سنة سبع وثلاثين وستمائة أعادها الله تعالى للإسلام(
إرسال تعليق