1- دور الأثرياء في
فك الأساري بالمال والفداء
يدخل فكاك الأسرى في مصارف الزكاة ، فيصرف له من سهم إعتاق الرقاب ، كما يُشرَع الإنفاق عليه من الكفارات الواجبة ، على ما هو مفصل في مظانه من كتب الفقه .
قال الإمام القرطبي في تفسير آية الصدقة من سورة التوبة : ( و اختلفوا في فك الأسارى منها – أي من أموال الزكاة - فقال أصبغ : لا يجوز . و هو قول ابن قاسم . و قال ابن حبيب : يجوز ، لأنها رقبة مُلكت بملك الرق فهي تخرج من رق إلى عتق ، و كان ذلك أحق و أولى من فكاك الرقاب الذي بأيدينا ، لأنه إذا كان فك المسلم عن رق المسلم عبادة و جائزاً من الصدقة ، فأحرى و أولى أن يكون ذلك في فك المسلم عن رق الكافر و ذله ) (1)
و يُندب إلى وقف الأوقاف و حبس أصول الأموال على ما من شأنه فكاك الأسرى ، حتى ينفق من خراج الوقف على كل أسير يقع في أيدي الأعداء إلى يوم يقوم الأشهاد .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( فكاك الأسارى من أعظم الواجبات ، و بذل المال الموقوف و غيره في ذلك من أعظم القربات ) (2)
و سُئل شيخ الإسلام رحمه الله عن مال موقوف على فكاك الأسرى ، و إذا استُدين بمال في ذمم الأسرى بخلاصهم لا يجدون وفاءه : هل يجوز صرفه من الوقف ؟ و كذلك لو إستدانه ولي فكاكهم بأمر ناظر الوقف أو غيره ؟
فأجاب :
نعم يجوز ذلك ، بل هو الطريق في خلاص الأسرى ، أجود من إعطاء المال إبتداء لمن يفتكهم بعينهم ، فإن ذلك يخاف عليه ، و قد يصرف في غير الفكاك ، و أما هذا فهو مصروف في الفكاك قطعاً . و لا فرق بين أن يصرف عين المال في جهة الاستحقاق ، أو يصرف ما استدين ، كما كان النبي تارة يصرف مال الزكاة إلى أهل السهمان ، و تارة يستدين لأهل السهمان ثم يصرف الزكاة إلى أهـل الـدَّين ، فعُلم أن الصرف و فـاء كالصرف أداء ، و اللّه أعلم .اهـ (3)
قال الإمام النووي رحمه الله بعد أن ذكر وجوب الجهاد لتحرير الأسرى : ( و الفداء بالمال واجب إن استطعنا تخليص الأسرى به)(4)
و قد ضرب السلف الصالح أعظم الأمثلة فى بذل الأموال لفك الأسارى ، قال الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء مخبرا عن عمر بن مسلمة النيسابورى الذاهد "بلغني أنه أنفق في يوم واحد بضعة عشر ألف دينار يفك بها أسرى المسلمين فلما أمسى لم يكن له عشاء "(5)
****************************
1- [ تفسير القرطبي : 8 / 183 ] .
2- [ الفتاوى : 28/635 ]
3- [ مجموع الفتاوى : 31 / ]
4- كما في الروضة : 10/216 ]
5- سير اعلام النبلاء ج10ص350
و ذكر الذهبي أيضا أن أخت سيف الدولة بن حمدان توفيت و خلفت خمسمائة ألف دينار ذهب فأنفقها سيف الدولة جميعها في فك الاسارى(1) .
و ذكر الذهبي فى سير أعلام النبلاء وبن كثيرفي البداية والنهاية " أن الملك المظفر أبو سعيد كوكبرى رحمه الله ، كان كثير التصدق على الفقراء و قد فدى من الأسرى المسلمين ستون ألف أسير و كان ثوبه لا يساوى خمسة دراهم فعاتبته زوجته بذلك .
فقال لها " لبس ثوب بخمسة دراهم و أتصدق بالباقي خير من أن ألبس ثوباً مثمنا و أدع الفقير و المسكين ".(2)
و ذكر السيوطي فى تاريخ الخلفاء أنه في سنة 189هـ فادى هارون الرشيد الأسرى المسلمين بالروم حتى لم يبقى بممالكهم فى الأسر مسلم .
و ذكر أيضا أن هارون الرشيد فكر فى توصيل بحر الروم " المتوسط " و بحر القلزم " الأحمر " فقال له يحيى بن خالد البرمكى : اذا كان يتخطف الروم الناس من المسجد الحرام و تدخل مراكبهم إلى الحجاز ، فترك الرشيد حفر القناة التي توصل بين البحرين خوفا على المسلمين من الأسر (3) و قال السيوطي فى سنة 331هـ وصلت الروم الى ميافارقين و نصبين فقتلوا و سبوا ، ثم طلبو منديلا فى كنيسة الرها يزعمون أن المسيح مسح بهوجهه فأرتسمت صورته فيه على أن يطلقوا جميع الأسرى ، فوافق المسلمون و أرسلو ا إليهم المنديل فأطلقوا الأسرى (4) و ذكر بن خلدون فى تاريخه أن المسلمين فى عهد هارون الرشيد حاصروا حصن سنان حتى جهد أهله فأرسل الروم فداء مجموعة من الأسرى المسلمين مقابل رفع الحصار عنهم فوافق الرشيد فأطلق النصارى ثلاثمائة و عشرين أسير فتم الصلح و حل عنهم وقد حرص هارون الرشيد علي فداء الأسري من بلاد الروم حتي أنه لم يبقي أسيراًإلا تمت فديته(5) و ذكرابن خلدون أن المسلمين أسروا بطريق فى عهد المتوكل فأرسل ملك الروم من يفديه فإشترط المسلمون أن يطلق ملك الروم ألف أسير مسلم مقابل فداء البطريق فوافق ملك الروم و أطلق ألف أسير مسلم كما فدي المتوكل الفان وثلاثةمائة مسلم (6) و كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله أن فاد بأسارى المسلمين وإن أحاط ذلك بجميع ما عندهم من المال . وذكر أبو غالب همام بن المهذب المعري في تاريخه أنه لما عقد سيف الدولة الفداء مع الروم اشترى أسرى المسلمين بجميع ما كان معه من المال .. وقد بلغ ما أنفقه أبو العباس الخزاعي أمير الشام في فكاك أسرى المسلمين من الترك ألفي ألف درهم
*********************************
1- سير اعلام النبلاء ج12ص331 )
2- سير اعلام النبلاء ج31 ص131 والبداية والنهاية حوادث سنة 630
3- تاريخ الخلفاء ص292
4- تاريخ الخلفاء ص408
5- تاريخ بن خلدون ج3 ص283
6- تاريخ بن خلدون ج3 ص348
وذكر بن حجر العسقلاني في كتابه ابناء العمر أنه في عهد السلطان المؤيد شيخ وفيه وصل كتاب أقبقا النظامي من جزيرة قبرص، وكان قد توجه من العام الماضي لفك أساري المسلمين بأنه وجد هناك خمسمائة أسير وأزيد فأفداهم بثلاثة عشر ألف دينار ، وأنه أرسل للفرنج المبلغ الذي كان جهزه معه وهو عشرة آلاف دينار وسمح له متملك قبرص بالباقي ، وحمل منهم إلى جهة مصر مائتي أسير وفرق الباقي في سواحل الشام(1) وفي ربيع الأول هجم الفرنج على( نستروه) فنهبوا بها وحرقوا ثم قدموا في ربيع الآخر إلى يافا فأسروا من المسلمين نساءً وأطفالا ، فحاربهم المسلمون ثم أفتكوا الأسرى منهم بمال(2) في شهر ربيع الآخر أفرج عن جنبوس الفرنجي صاحب قبرس على فدي مبلغه مائة ألف دينار ، وأن يطلق من عندهم من أسرى المسلمين(3) هذا هو حال السلف مع الاسري بل حتي في وقت الإستضعاف كان السلف يحرصون علي فك الأساري فقد جاء في كتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب في حوادث سنة 897
وفيها استولى النصارى على الحمراء ودخلوها بشروط وكانت الشروط سبعة وستين شرطا منها تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل والمال وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعهم ومنها يفتك جميع من أسر في غرناطة من حيث كانوا وخصوصا أعيانا نص عليهم ومن هرب من أسارى المسلمين ودخل غرناطة لا سبيل عليه لمالكه ولا سواه والسلطان يدفع ثمنه لمالكه(4) وجاء في كتاب نفح الطيب أن الخليفة عبد الرحمن بن الحكم خرج غازيا فدمرالقلاع وخرب كثيرا من البلاد وانتسفها وفتح كثيرا من حصونهم وصالح بعضها على الجزية وإطلاق أسرى المسلمين وإنصرف ظافراً(5)
وهذا هو البطل (عروج الآفاق) عندما استطاع بين العامين 1504 و 1510 إنقاذ الآلاف من مسلمي الأندلس ونقلهم إلى شمال أفريقياوبعد قتل عروج تولي أخوه من بعده خير الدين وقام بإنقاذ 70.000 مسلم أندلسي وأسكنهم في مدينة ، وذكر الذهبي أن الأوحد بن العادل الأيوبي أسر طاغية الكرج فبذل فداء نفسه عدة قلاع ومائة الف دينار وإطلاق خمسة ألآف أسير مسلم(6) وجاءفي البداية والنهاية أن صاحب القومص أسره نورالدين عشرسنوات فأفتدي نفسه بالف دينارو بألف أسيرمن المسلمين(7)
******************************************
1- انباءالغمر بابناء العمرفي التاريخ في حوادث 818 ج7ص165
2- انباءالغمر بابناء العمرفي التاريخ في حوادث 819 (7/210)
3- انباءالغمر بابناء العمرفي التاريخ في حوادث 831 (8/149)
4- نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب ج4ص525حوادث897
5- نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب
6- سير اعلام النبلاء ج16 ص145
7-البداية والنهاية ج12 حوادث سنة 570
أخى الحبيب :
هذا هو حال السلف الصالح رحمهم الله ، كانوا يتسارعون لفك الأسارى و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة ،
قال الشيخ شرف الدين عبد المؤمن بن هبة الله الأصفهاني " ليس الشريف من تطاول و تكاثر و لكن الشريف من تطول و آثر ، و لا بركة فى لبن لا يروى خروفاً ، أنفق الفك قبل أن يقسم خلفك ، إن منازل الخلق سواسية إلا من له يد مواسية ، فأرفعهم أنفعهم و أسودهم أجودهم و أفضلهم أبذلهم "(1)
هذا هو هم السلف الصالح كان همهم خدمة الإسلام و المسلمين ، و لم يكن همهم جمع الأموال و تكنيزها ، كانوا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " (2)
فلم يكن للسلف رحمهم الله هم إلا رضى الله عزوجل .
قال محمد بن واسع : طوبى لمن وجد غداء و لم يجد عشاء و وجد عشاء و لم يجد غداء و هو عن الله راضي و الله عنه راضي " (3)
******************
1- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج7 ص175
2-
3- سير اعلام النبلاء ج14ص 332
إرسال تعليق