معاوية رضي الله عنه
قال المسعودي في كتاب مروج الذهب:
فأما خبر معاوية وما ذكرناه من خبر الرجل الذي أسرَ البطريق من مدينة القسطنطينية، فهو أن المسلمين غَزَوْا في أيام معاوية، فأسر جماعة منهم، فأوقفوا بين يدي الملك، فتكَلم بعض أسارى المسلمين، فدنا منه بعض البطارقة ممن كان واقفاً بين يدي الملك فلَطَمَ حُرَّ وجهه فآلمه- وكان رجلاً من قريش- فصاح: وا إسلاماه، أين أنت عنا يا معاوية? إذ أهملتنا وضيعت ثغورنا وحكمت العدو في ديارنا وعمائنا وأعراضنا، فنمي الخبر إلى معاوية فآلمه، وامتنع من لذيذ الطعام والشراب، فخلا بنفسه وإمتنع من الناس، ولم يظهر ذلك لأحد من المخلوقين، ثم أجمل الأمر في إعمال الحيلة بإقامة الفداء بين المسلمين والروم إلى أن فادى بذلك الرجل، فلما صار الرجل إلى دار الِإسلام دعاه معاوية فبره وأحسن إليه، ثم قال له: لم نهملك ولم نضيعك ولا أبَحْنا عمك وعرضك، ومعاوية مع ذلك يجيل الرأي ويعمل الحيلة، ثم بعث إلى رجل من ساحل دمشق من مدينة صور، وكان به عارفاً، كثير الغزوات في البحر، صملّ من الرجال، مرطان بالرومية، فأحضره وخَلَا به وأخبره بما قد عزم عليه، وسأله إعمال الحيلة فيه والتأتي له فتوافقا على أن يدفع للرجل مالاً عظيماً يبتاع به أنواعاً من الطّرَفِ والمُلَح والجهاز والطيب والجوهر وغير ذلك، وابّتني له مركب لا يلحق في جريه سرعة، ولا يدرك في مسيره بنياناً عجيباً، فسار الرجل حتى أتى مدينة قبرس فاتصل برئيسها وأخبره أن معه جارية للملك، وأنه يريد التجارة إلى القسطنطينية، قاصداً إلى الملك وخواصه بذلك، فروسِلَ الملك بذلك، وأعلم بحال الرجل، فأذن له في الدخول، فدخل خليج القسطنطينية، وسار فيه حتى إنتهى إلى القسطنطينية، وقد أتينا على مقدار مسافة هذا الخليج، واتصاله بالبحر الرومي وبحر مانطس عند ذكرنا البحار فيما سلف من هذا الكتاب. فلما وصل إلى القسطنطينية أهدى للملك وجميع بطارقته، وبايعهم وشاراهم، ولم يعط للبطريق الذي لطمَ وجه القرشي شيئاً، وقصده إلى ذلك البطريق الذي لطم الرجل القرشي، وتأتى الصوري في الأمر على حسب ما رسمه له معاوية، وأقبل الرجل من القسطنطينية إلى الشام، وقد أمره البطارقة والملك بابتياع حوائج ذكرها، وأنواع من الأمتعة وصفوها، فلما صار إلى الشام سار إلى معاوية سراً، وذكر له من الأمر ما جرى، فابتيع له جميع ما طلب منه وما علم أن رغبتهم فيه، وتقدم إليه فقال: إن ذلك البطريق إذا عُدت إلى كرتك هذه سيعذلك عن تخلفك عن بره واستهانتك به، فإعتذر إليه ولاطفه بالقصد والهدايا، وإجعله القيم بأمرك، والمتفقد لأحوالك، وانظر ماذا يطلب منك حين أوْ بِكَ إلى الشام، فإن منزلتك ستعلوا وأحوالك تزداد عندهم، فإذا أتقنت جميع ما أمرتك به وعلمت غرض البطريق منك وأي شيء يأمرك بابتياعه لتكون الحيلة بحسب ذلك، فلما رجع الصوري إلى القسطنطينية ومعه جميع ما طلب منه والزيادة على ما لم يطلب منه زادت منزلته ،وارتفعت أحواله عند الملك والبطارقة وسائر الحاشية، فلما كان في بعض الأيام وهو يريد الدخول إلى الملك قبض عليه ذلك البطريق في دار الملك وقال له: ما ذَنْبِي إليك? وبماذا استحقِّ غيري أن تقصده وتقضي حوائجه وتُعْرِض عني? فقال له الصوري: أكثر من ذكرت ابتدأني وأنا رجل غريب أدخل إلى هذا الملك والبلد كالمتنكر من أساري المسلمين وجواسيسهم، لئلا ينمُّوا بخبري ويعنوا بأمري إلى المسلمين فيكُون في ذلك فَقدِي، وإذ قد علمت ميلك إليَّ فلست أحب أن يعتني بأمري سواك ولا يقوم به عند الملك وغيره غيرك، فأمُرْنِي بجميع حوائجك وجميع ما يعرض من أمورك بأرض الإِسلام.
وأهدى إلى البطريق هدية حسنة من الزجاج المخروط والطيب والجواهر والطرائف والثياب، ولم يزل هذا فعله يتردد من الروم إلى معاوية، ومن معاوية إلى الروم، ويسأله الملك والبطريق وغيره من البطارقة الحوائج، والحيلة لا تتوجه لمعاوية حتى مضى على ذلك سنين فلما كان في بعضها قال البطريق للصوري، وقد أراد الخروج إلى دار الِإسلامِ: قد اشتهيت أن تغمرني قضاء حاجة وتمنَّ بها علي: أن تبتاع لي بساطاً سوسنجرد بمخاده ووسائده يكون فيه من أنواع الألوان من الحمرة والزرقة وغيرهما، ويمون من صفته كذا وكذا، ولو بلغ ثمنه كل مبلغ، فأنْعَمَ له بذلك، وكان من شأن الصوري إذا ورد إلى القسطنطينية تكون مركبهُ بالقرب من موضع ذلك البطريق، وللبطريق ضيعة سرية وفيها قصر مشيد ومنتزه حسن على أميال من القسطنطينية راكبة على الخليج، وكان البطريق أكثر أوقاته في ذلك المنتزه، وكانت الضيعة يلي فم الخليج مما يلي بحر الروم والقسطنطينية، فانصرف الصوري إلى معاوية سراً، وأخبره بالحال؛ فأحضر معاوية بساطاً بوسائد ومخادّ ومجلس? فانصرف به الصوري مع جميع ما طلب منه من دار الِإسلام، وقد تقدم إليه معاوية بالحيلة وكيفية إيقاعها، وكان الصوري فيما وصفنا من هذه المدة قد صار كأحدهم في المؤانسة وفي العشرة، وفي الروم طَمَع وشَرَه، فلما دخل من البحر إلى خليج القسطنطينية- وقد طابت له الريح، وقد قرب من ضيعة البطريق- أخذ الصوري خبر البطريق من أصحاب القوارب والمراكب? فأخبر أن البطريق في ضيعته، وذلك أن الخليج طوله نحو من ثلاثمائة ميل وخمسين ميلاً بين هذين البحرين وهما الرومي ومانطس، على حسب ما قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب، والضياع والعمائر على هذا الخليج من حافيته، والمراكب تختلف والقوارب بأنواع المتاع والأقوات إلى القسطنطينية، وهذه المراكب لا تحصى في هذا الخليج كثرة، فلما علم الصوري أن البطريق في ضيعته فرش ذلك البساط ونضد ذلك الصدر والمجلس بالوسائد والمخادِ في صحن المركب ومجلسه، والرجال تحت المجلس بأيديهم المجاذيف مشكلة قائمة غير قاذفين بها، ولا يعلم بهم أنهم في بطن المركب إلا مَنْ ظهر منهم في المركب عمله، والريح في القلع، والمركب مار في الخليج كأنه سهم قد خرج من كبد قوس لا يستطيع القائم على الشط أن يملأ بصره منه؛ لسرعة سيره واستقامته في جريه، فأشرف على قصر البطريق وهو جالس في مستشرفه مع حرمه وقد أخذت منه الخمر وعَلَاهُ الطرب وذهب به الفرح والسرور كل مذهب فلما رأى البطريق مركب الصوري غَنَى طرباً، وصاح فرحاً وسروراً وابتهاجاً بقدومه، فدنا من أسفل القصر، وحط القلع، وأشرف البطريق على المركب، فنظر إلى ما فيه من حسن ذلك البساط ونظم ذلك الفرش كأنه رياض تزهر، فلم يستطع اللبث في موضعه حتى نزل قبل أن يخرج ذلك الصوري من مركبه إليه، فطلع المركب
. فلما استقرت قدمه في المركب ودَنَا من المجلس ضرب الصوري بعقبه على مَنْ تحت البساط من الوقوف- وكانت علامة بينه وبين الرجال الذي في بطن المركب- فما استقر دقه بقده حتى اختطف المركب بالمجاذيف فإذا هو في وسط الخليج يطلب البحر لا يلوي على شيء، وارتفع الصوت، ولم يدر ما الخبر لمعاجلة الأمر، فلم يكن الليل حتى خرج من الخليج وتوسَّطَ البحر، وقد أوثق البطريق كِتَافاً، وطابت له الريح، وأسعده الجد، وحملته المجاذيف في ذلك الخليج، فتعلق في اليوم السابع بساحِل الشام، ورأى البر، وحمل الرجل، فكانوا في اليوم الثالث عشر حضوراً بين يدي معاوية بالفرح والسرور لإِثلاجة بالأمر وتمام الحيلة، وأيقن معاوية بالظفر وعلو الجد، فقال: علي بالرجل القرشي، فأتي به، وقد حضره خواص الناس، فأخلوا مجالسهم، وانغصَّ المجلس بأهله، فقال معاوية للقرشي: قم فاقتصَّ من هذا البطريق الذي لَطَمَ وجهك على بساط معظم الروم؛ فإنا لن نضيعك ولا أبحنا دمك وعرضك، فقام القرشي ودنا من البطريق، فقال له معاوية: انظر لا تتعدَّ ما جرى عليك منه، واقتص منه على حسب ما صنع بك، ولا تتعد، وراع منا أوجب اللّه عليك من المماثلة، فَلَطَمه القرشي لطماتٍ، ووكزه في حلقه، ثم انكبَّ القرشي على يديِ معاوية وأطرافه لقبلها، وقال: ما أضاعك مَنْ سَوّدك، وخاب فيك أمَلُ من أملك، أنت ملك لا تضام، تمنع حماك، وتصون رعيتك، وأغْرَقَ في دعائه ووصفه، وأحسن معاوية إلىِ البطريق، وخاب عليه وبَرَّه، وحمل معه البساط، وأضاف إلى ذلك أُموراً كثيرة وهدايا إلى الملك، وقال له: ارجع إلى ملكك، وقل له: تركت ملك العرب يقيم الحدود على بساطك، ويقتص لرعيته في دار مملكتك وسلطانك، وقال للصوري: سر معه حتى تأتي الخليج فتطرحه فيه ومن كان أسِرَ معه ممن بادر فصعد المركب من غلمان البطريق وخاصته، فحملوا إلى صور مكرمين، وحملوا في المركب، فطابت لهم الريح، فكانوا في اليوم الحادي عشر متعلقين ببلاد الروم، وقربوا من فم الخليج، وإذا به ؛قد أحكم بالسلاسل والمنعة من الموكلين به، فطرح البطريِق ومن معه وانصرف الصوري راجعاً، وحمل البطريق من ساعته إلى الملك ومعه الهدايا والأمتعة، فتباشرت الروم بقدومه، وتلقوه مهنئين له من الأسر فكافأ الملك معاوية على ما كان من فعله بالبطريق والهدايا؛ فلم يكن يستضام أسير من المسلمين في أيامه، وقال الملك: هذا أمكر الملوك وأدهَى العرب، ولهذا قدمته العرب عليها، فساس أمرها، واللّه لوهم بأخذي لتمت له الحيلة عليَّ.فرحم الله علي الصحابي الجليل معاوية ورحم الله ذلك الزمان(1)
إني تذكرت والذكرى مؤرقة------ مجدا تليدا بأيدينا اضعناه
أنى اتجهت الى الاسلام في بلد------ تجده كالطير مقصوصا جناحاه
ويح العروبة كان الكون مسرحها ------ فأصبحة تتوارى في زواياه
كم صرفتنا يد كنا نصرفها ------ وبات يملكنا شعب ملكـناه
بني العروبة إن القرح مسكم ------ ومسنا نحن في الاسلام اشباه
لسنا نمد لكم ايماننا صلة ------ لكـنما هــــو دين ما قضيناه
****************************************
إرسال تعليق