الرجل الأسطورة
عيسى الوكواك العرفي
' المجاهد الذي أجبر الإيطاليين على التفاوض معه '
' (أنا أعجب من جيش إيطاليا ، المدعوم بوسائل الفتك والدمار ، كيف يعجز عن القبض
على رجل بدوي حافي القدمين ، يملك بندقية جل ذخيرتها من غنائم إيطالية .. أخيركم بين اثنين : إما أن يعدم عيسى الوكواك ، أو أن أنتحر بعد أن أقتل معي ولدي الاثنين )'
التوقيع إيطالية قتل الوكواك زوجها
إن بطولاته التي تفـوق في واقعيتها وصدقها مغامرات ( روبن هوود ) الإنجليزي .. ومن جرأته وشجاعته أنه حاول مراراً ، إغتيال السفاح ( غراتسياني ) إنتقاماً لإعدام عمر المختار، فكانت تعترضه أحياناً الأسلاك الشائكة وأحياناً الكاشفات الكهربائية ، وفي أحيان أخرى الجنود وكلاب الحراسة وغير ذلك من العوائق ، ولكنه مع هذا كله أثخن في العدو لدرجة أنهم طلبوه حياً أو ميتاً.
واليك أخي قصة ذلك البطل كما يرويها الاستاذ فرج مصطفي لاغا
البداية والإختيار الصعب :
قبض الإيطاليون على عيسى الوكواك ، سنة : 1915 ، حينما كان يتجول مع أحد أقاربه بسوق الظلام ببنغازي ، وخيروهما بين الإلتحاق بالجندية أو النفي إلى جزيرة ( ساركوزا ) .. فاختار قريبه النفي ، وأختار( الوكواك ) التجنيد .
وكان ذلك الإختيار أحد أهم الأسباب التي أثرت في شخصيته ، وشكلت حياته وسيرته التاريخية .. فقد أمضى في معسكر إيطالي بالمرج مدة سنة كاملة ، تعلم خلالها اللغة الايطالية ، وأتقن استعمال السلاح الإيطالي ، وأكتسب مهارات قتالية عالية ، وخبر مواطن قوة العدو وضعفه ، الأمر الذي جعل تحركاته وضرباته للعدو – فيما بعد ــ مؤلمة وقاتلة
محاولة إنقاذ فاشلة :
بينما ( الوكواك ) ينظف حصانه في المعسكر الإيطالي ، أخبر بأن رجلاً من أبناء عمومته يدعى ( اشكوربه ) سينفذ فيه حكم الإعدام في ساحة المعسكر .. وفي محاولة منه لتخليص ابن عمه ، ودونما تأخير قفز على ظهر جواده ، واتجه مباشرة إلى ساحة الإعدام .. كانت تلك بالطبع محاولة فاشلة ، وعملاً متهوراً .. فقد استطاع الإيطاليون القبض عليه ، واتهموه بالجنون ، معتقدين أن من يقدم على عمل مثل هذا ، لابد أن يكون مجنوناً .
لقي ( اشكوربه ) مصيره على حبل المشنقة راضياً محتسباً .. وقُدم ( الوكواك ) إلى المحاكمة ، وحكم عليه بالسجن لمدة سنة.
وللمجاهد ( اشكوربه ) قصة أخرى .. فقد كان بطلاً من الأبطال .. عرف بقتاله الشرس ضد الطليان .. ولم يكن من السهل على الإيطاليين القبض عليه .. لولا أنه كان في نجع من نجوع البادية ، يحضر عرساً لأحد أقاربه .
وعلم الطليان بمكان تواجده .. فحاصروا ذلك النجع وطلبوا منه الإستسلام دونما شروط .. وخوفا منه على سلامة النساء و الأطفال ، لم يكن أمامه من خيار سوى الإستسلام .. فخرج عليهم مستسلماً ، وألقى سلاحه بين أيديهم ، وهو يقول لهم :
' لولا خوفي على هذه العائلات ، لقاتلتكم حتى آخر رمق من حياتي ' .
فراره من السجن :
وبينما كان( الوكواك ) يقضي مدة عقوبته في السجن ، طلب الآمر مجنداً ليبياً يتحدث الإيطالية بطلاقة ، ليبعث به إلى منطقة سوسة في مهمة خاصة .
ووقع الاختيار على ( الوكواك ) .. وقابل الآمر الذي اطمأن له ووثق به ، فسلمه حصانه ، وأمره أولاً وقبل أن يذهب به في مهمته تلك .. أن يأخذه إلى الشاطئ ليغسله هناك .
وذهب ( الوكواك ) بالحصان إلى الشاطئ ، وإذا بثلاثة من المجندين الليبيين ، يلعبون السيزى على الشط .. وكانوا قد وضعوا بنادقهم بالقرب منهم .. وبعدما انتهى ( الوكواك ) من تنظيف الحصان هجم على بنادق أولئك المجندين ، وأخذ إحداها ، وطلب منهم التزام الهدوء وإلا قتلهم جميعاً .. ثم أفرغ ذخيرة البندقيتين الأخريين في جيوبه .. ومن ثم أتجه مباشرة إلى مكتب الآمر بالمعسكر .. ومن وراء الشباك نادى على الآمر باسمه .. وما إن أطل برأسه ، حتى عاجله برصاصة خر على إثرها صريعا .
ومن هناك إنطلق مباشرة صوب معسكر عمر المختار ، فرحب به المجاهدون ، وانضم إلى صفوفهم .. ليبدأ بعد ذلك ، تنفيذ عملياته ومهماته الخاصة والمؤثرة .
الجزاء من جنس العمل :
ويسلط الأستاذ / لاغا الضوء على بعض تلك العمليات الجريئة لعيسى الوكواك فيقول : ' كان هناك نجع يتكون من ( 60 ) بيتاً من قبيلة العرفة ، أحرقه الطليان بكامله في مكان يسمى بــ ( سيدي ارحومة ) ، بالقرب من مدينة المرج .
وعلم ( الوكواك ) بذلك .. فرصد حركات ذلك الضابط الإيطالي المسئول عن تلك الجريمة البشعة ، ونجح في اختطافه ، ومن ثم قيده وجره بحصانه إلى مكان الجريمة .. بجوار قبر ( سيدي سعيد ) وهناك أضرم النار فيه قصصاً .. غير أنه أفلت من النار بعدما التهمت الحبال التي قيده بها .. وطلبا منه للنجاة ، لجأ ألإيطالي إلى مرقد المرابط ، ورمي بنفسه على صندوق القبر .. لعلمه بالمكانة التي للصالحين والشهداء المرابطين في نفوس العرب .. ولكن ذلك لم يشفع له لدى ( الوكواك ) الذي لحق به وأمسكه وهو يقول : ' علي الطــلاق ، لــو يطلع هالمرابــط من قبــره ، مانــي طالقــك ' ثم أجهز عليه وقتله .
رجل المهمات الخاصة :
أصبح ( الوكواك ) رجل المهمات الصعبة .. وقائداً للعمليات الخاصة .. وترقى في سلك الجهاد إلى رتبة ( كومندار ) .. وكان بخلاف بقية المجاهدين ، ينفذ عملياته وهجماته بمفرده ، ودونما حاجة منه إلى مساعدة أحد .. فقد كان يجيد التخفي والتنكر بشخصيات عدة مع إتقانه للغة الإيطالية .
وكان تنكره يتعدد ويختلف ، بتعدد وإختلاف المهمات التي ينفذها .. فتارة تراه في زي امرأة ، وأخرى في شكل راعٍ .. وثالثة في هيئة مرابط ، أو في أسمال درويش ، أو في قيافة مجند 'متطلين'
مفاجأة غير سارة :
ومن تلك المهمات .. أنه وعندما كان ملاحقاً في المرج ، ووضعت السلطات الإيطالية في المرج ، جائزة مالية لمن يُخبر عنه ، وكلفت ثلاثة من الإيطاليين ليتقصوا أخباره وتحركاته
فتخفى في زي امرأة متزينة متعطرة ، ومر بجانب أولئك التعساء الثلاثة .. فأغراهم منظره ورائحته ، فنادوا عليه قائلين : مبروكة .. وين يا مبروكة .. ؟ فالتفت إليهم ( الوكواك ) وصوب سلاحه إلى صدورهم فقتل منهم اثنين ، وفر الثالث .. فأخذ بنادقهم واختفى عن الأنظار سريعا كما ظهر .
وأثناء التحقيق مع الثالث ، أخبر بأن من قام بذلك امرأة .. فصاح قائده في وجهه مستهجناً غباءه ، وقال له : ' هذه المرأة كانت عيسى الوكواك ياغبي ، وكم مرة أخبرتكم بأن لا تكونوا معاً في حالات كتلك ' .
موقف آخر :
اشتكى له أبناء عمومته ــ في المرج ــ من عميل ليبي ، يتجسس عليهم لصالح الطليــان ، وكان هذا العميل يملك خمسين بقرة ، ويعيش في بحبوحة من العيش بسبب عمالته ، بينما بقية أهل المرج ، لا يستطيعون توفير قوتهم اليومي .. وكانت أبقاره تخرج من حظائرها صباحا ، وتذهب حتى منطقة ( الشليوني ) .. ومن ثم تقفل راجعة عند الغروب .
فتنكر ( الوكواك ) في لباس امرأة ، ورافق الأبقار في طريق عودتها ، إلى دار العميــل .. وصادف مجيئه ذاك ، قدوم ضابطين إيطاليين في زيارة ودية لذلك العميل الذي لم يكن موجوداً بالدار .. فأجهز ( الوكواك ) عليهما ، ورجع لأبناء عمومته وقال لهم : لم أجد ذلك الخائن ، ولكنني قتلت مكانه اثنين من الكفرة .
تحذير :
تسلق ذات مرة ، دار المدعو ( بياتي ) متصرف المرج ، ودخل عليه في حجــرة نومــه ، وأمسك به أمام زوجته الليبية ــ حواء بياتي ــ وقال له : ' بإمكاني الآن أن أقتلك ، ولكنني لن أفعل ذلك .. لكن إذا سمعت أنك تعرضت للأهالي ، أو أهنت أحداً مرة أخرى ، فستكون خاتمتك أقرب مما تتصور ' .. ثم تركه مفجوعاً ، وزوجته منهارة من شدة الخوف ، وعاد من حيث أتى
الأقرباء أولى بالمعروف :
مر ذات يوم بنجع للعواقير بالقرب من سلوق ، فسأل هل يوجد هنا بيت من بيوت العرفة ، فقيل له : توجد هنا امرأة من قبيلة العرفة تدعى : مبروكة النحيلي ، متزوجة من رجل عقوري .
ولأنه يعلم أن المرأة عند البادية ، تستضيف كما يستضيف الرجل ، فقد سأل عن بيتها ، فدلـوه عليـه .. وهنــاك في بيتهـا .. استقبلـه زوجها استقبالا حسنا ورحب به .. وقــدم ( الوكواك ) نفسه إليه .. فعرفه الزوج الذي كان يسمع عنه كثيرا .. وأخبر الزوج زوجته .. بأن الضيف من قبيلتها ، وابن عم لها .. وزيادة في إكرامه وحسن ضيافته ، ذبح له شاة ، كما هي عادة العرب مع الضيوف .
وبينما الزوجة تعد الشاي للضيف بكت ، فسأل ( الوكواك ) زوجها ، عما يبكي ابنة عمــه .. فقال له : تبكي على خمس بقرات لنا أخذها الطليان ، وساقوها إلى معسكر ( الشليظيمة ) .
وبعد ما انتهى ( الوكواك ) من تناول الشاي .. طلب من الزوجة – بعدما استأذن زوجها ــ أن تحضر له كل ما تلبسه المرأة للأفراح ، وكل ما يلزم من طيب وأدوات زينة .. فتعجبت المرأة مما طلب .. !!!
لكنها وأمام إصراره على طلبه .. أحضرت له ما أراد .. فلبس وتزين وتعطر ، ولبس أجمل ما تلبسه المرأة الليبية في ذلك الوقت ، من رداء ومحرمة وسورية وشملة ، ثم صب زيت القرنفل على رأسه ، وحك أسنانه بالسواك النسائي .. حتى صار كعروس ذاهبة لتوها إلى عش الزوجية .. وبعد أن أكمل زينته ، لبس الجرد النسائي ، ولم ينس أن يدس مسدسه تحته .
متنكرا اتجه ( الوكواك ) مباشرة إلى معسكر العدو .. وعند بابه قابل بعض المجندين ، فسألهم عن قائدهم الإيطالي ، فردوا عليه بشيء من المعاكسات ، والكلمات النابية ــ أكد الأستاذ لاغا : أنه قابل أحدهم أثناء بحثه عن شخصية الوكواك ، وقد قال له ذلك المجند : بأن الوكواك ظهر لهم بالفعل وكأنه إمرأة ــ لم يأبه ( الوكواك ) ولم يضق ضرعا بمعاكساتهم .. بل أصر على مقابلة قائد المعسكر .. زاعماً بأن له أخاً وحيداً ، نقل إلى معسكر إجدابيا ، وليس لهم من يعولهــم .. فدخل أحد المجندين على سيده وقال له : ثمة امرأة بالباب ، تريد مقابلتك ، ففرح الإيطالي بذلك ، وسمح لهم بإدخالها عليه .
وعندما دخل ( الوكواك ) قال له الإيطالي الذي ظنه امرأة : مبروكة .. ماذا تريدين يا مبروكة ..؟ وعلى الفور أخرج ( الوكواك ) مسدسه ، وقال له : أريد رأسك .. ثم أطلق النار عليه فأرداه قتيلا .
وخرج مسرعا ، من مكتبه فقابله أحد المجندين عند الباب ، فضربه بطلقة في كتفــه .. وقال لــه : لــم آت لقتلكم ، بل لقتال هذا وأشار إلى الإيطالي الذي كان ممددا يسبح في دمائه .
ثم سأل المجند عن بقرات العرفية .. فأخبره بأنها وراء سور المعسكر، فذهب إليها وساقها إلى صاحبتها .. فلما رأته قادما بالبقرات .. أطلقت زغرودة مدوية .. وشكرته على ذلك .. فقال لها : هذه بقراتك والآن أعطني ملابسي ، ثم اختفى سريعا كعادته.
الإنتقام :
وتخفى مرة أخرى في زي ضابط إيطالي برتبة ( ميجر ) وهي تعادل رتبة رائد .. واتجه إلى معسكر سلوق .. وكان آمر ذلك المعسكر قد نفذ حكم الإعدام شنقا ، بصديق ( الوكواك ) عوض العبار وراعيه إبراهيم في المرج .. وكان ( الوكواك ) يحمل معه ، حقيبة صغيرة تشبه ( السمسونايت ) بداخلها حبل .
وفي مطبخ المعسكر ــ ولكي يعرف عدد أفراد المعسكر ــ سأل الطباخ : كم قطعة لحم تطبخون في الوجبة الواحدة ..؟ فأجابه الطباخ : نطبخ ( 700 ) قطعة لحم تقريباً .
ثم طلب ( الوكواك ) الدخول على الآمر ، مدعيا بأنه من مقر القيادة في بنغازي ، ويريد مناقشة بعض الأمور معه ، فأذن له الآمر بالدخول ورحب به ، وطلب شيئاً من الخمر فاعتذر ( الوكواك ) وقال له : ليس لدينا الوقت ولا المزاج لاحتساء الخمر الآن ، لأننا بصدد أنجاز بعض الأعمال الهامة ، وطلب منه أن يأمر الحرس ألا يدخلوا عليهما أحداً.
وبعدما اطمأن( الوكواك ) للترتيبات ، وبأنها تسير على ما يرام .. فتح حقيبته ، وأخرج الحبل ، وقال للإيطالي أتعرف ما هذا ..؟ فقال الإيطالي مستغرباً : لا .
فقال له ( الوكواك ) : هذا هو الحبل الذي شنقت به صاحبي العبار.
وبسرعة البرق لفه حول عنق الضابط وشده بقوة ، حتى لفظ الإيطالي أنفاسه .. ومن ثم وبهدوء خرج على الحرس ، وقال لهم : يطلب منكم السيد ، بألا تدخلوا عليه أحدا .. لأنه يريد أن ينال قسطاً من الراحة .. فحياه ذاك الجندي ، وأنصرف ( الوكواك ) إلى مكان آخر ، لانجاز مهمة أخرى
شهامة :
لا يتأخر( الوكواك ) عن تقديم يد المساعدة للآخرين ، ممن ليسوا من بني عمومته أومن قبيلته ، كما فعل مع الشهيد عوض العبار سالف الذكر.
قدم ذات يوم إلى منطقة ( قاريونس ) في زيارة إبن عم له ويدعى : الحول العرفي ، فأخبره ابن عمه ، عن رجل من عرب مصراته ، يعيش في نفس المنطقة ، وله بنات .. يتحرش بهن أربعة من عساكر الطليان .. فعز ذلك على ( الوكواك ) ، وأخذه الشهامة والنخوة العربية .. فذهب إلى الرجل المصراتي وقال له : ليس لدي رصاص كاف ، زودني ببعض الرصاصات وسأريحك منهم إلى الأبد .
وبعدما تحصل على العدد المطلوب من الرصاص .. جلس في بيت المصراتي ، ينتظر قدومهم .. ولم يتأخر به الانتظار طويلا .. فما أسرع ما خرجوا من معسكرهــم وجــاءوا رأسا إلى بيت المصراتي .. وكان ( الوكواك ) هنــاك في انتظارهــم .. حيث كمن لهم ، وصوب بندقيته إليهم ، وأقتنصهم الواحد تلو الآخر .
عرين الأسد :
يؤكد لنا الأستاذ فرج لاغا .. أن ( الوكواك ) استمر وحيدا في جهاده ضد الطليان .. رغم إعدام عمر المختار ، وتوقف حركة الجهاد في الجبل الأخضر، واستشهاد أو هجرة بقية المجاهدين إلى مصر .
وقد كان في آخر أيامه ، يتخذ من كهف يسمى ( بومقهيه ) عريناً له ، يأوي إليه مرتدياً خرقاً بالية ويضع جلد ذئب على رأسه ، محتفظا بسبع رصاصات في بندقيته .. وقد تزامن ذلك مع تعيين ( دوداتشي ) متصرفاً جديداً للمرج ، وكان عضواً بارزاً في الحزب الفاشستي .. ومن المفارقات أنه كان قد استقال من منصبه بسبب ( الوكواك ) نفسه .. وقد رأى ( دوداتشي ) ضرورة التفاوض مع ( الوكواك ) لوضع حد لضرباته الموجعة .
كان ( الوكواك ) يضرب تارة في المرج ، وأخرى في بنغازي ، وثالثة في قاريونس ، وتارة أخرى في سلوق .. أوغيرها من المناطق التي لا يتصور إنسان أنه يصل إليها بسهولة .. وكان يقتل الجنود والعملاء والمستوطنين في بيوتهم ، أو يغتالهم في محلاتهم .. وكان جريئاً إلى حد التهور ، حتى قيل إنه قام باثنتي عشرة محاولة ، لاغتيال المجرم ( غراتسياني ) في مقر إقامته في ( قصر الجخ ) أواخر عام 1931م .
وتنفيــذا لاقتراحــه ، الذي لقي قبــولا وارتياحا ، لــدى السلطات الإيطالية ، استقل ( دوداتشي ) سيارة يرفرف عليها علم أبيض ، وذهــب لمقابلة ( الوكواك ) في عرينه .. وعرض عليه ، تسليم نفسه للسلطات الإيطالية .. ويضمن له في المقابل حياته وحريته .
ووافق ( الوكواك ) الذي ضاقت به الدنيا وضاق بها .. وافق على وقف عملياته الجهادية ، وسلم نفسه للسلطات الإيطالية ، شريطة أن تكف عن مطاردته . وقد أخطأ البطل في ذلك فالعدو لا يريد به خيرا ً.
( خالف عدوك فيما ** أتاك فيه لينصح )
( فإنما يبتغي أن ** تنام عنه فيربح )
وقد ضمن له ( دوداتشي ) كمتصرف الجبل وعضو في الحزب الحاكم ، كل ذلك .. وأبرق إلى قائده ( غراتسياني ) يزف له خبر تجميد مقاومة ( الوكواك ) .
لكن ( غراتسياني ) الذي لم يعجبه ذلك الاتفاق .. أرسل إلى ( دوداتشي ) يقول له : ' إذا وجدتم عيسى الوكواك ميتا ، فيجب إعدامه مرة أخرى ، من باب التمثيل به '
وتزامن ذلك مع موجة من حملات الرأي العام الإيطالي في برقة ، ضد العفو عن (الوكواك) ومن جملة من إعترض ، على العفو عنه و إطلاق سراحه ، مستوطنة إيطالية قتــل ( الوكواك ) زوجها في ( قاريونس ) غرب بنغازي ، فكتبت إلى رئاسة الأركان تقول فيها :
' أنا أعجب من جيش إيطاليا ، المدعوم بوسائل الفتك والدمار ، كيف يعجز عن القبض على رجل بدوي حافي القدمين ، يملك بندقية جل ذخيرتها من غنائم إيطالية .. أخيركم بين اثنين : إما أن يعدم عيسى الوكواك ، أو أن أنتحر بعد أن أقتل معي ولدي الاثنين ' .
لقدأراد الوكواك أن يعيش بقية حياتة في أمان ويأبي الله إلا أن يموت هذا الرجل كما يموت الأبطال يأبي الله إلا أن يختم له بالشهادة بعدما أذل الصليبيين سنوات عدة
وفي يوم الثلاثاء الموافق 15 مارس : 1932م .. أعدم البطل عيسى الوكواك .. رغم الاتفاق الذي أبرم معه ، ورغم عهود الأمان التي أعطيت له .وصدق الله حيث يقول (( أوكلما عاهدو عهدا نبذه فريق منهم )) (1) قتل الوكواك بعد أن اثخن في العدو بمفرده فلا نامت أعين الجبناء هؤلاء هم الابطال بمعني الكلمه (2)
فأنت الصامد البطـــــــلُ وأنت بدربنا مثـــــلُ
ثبت لهم ولم تهزم وحاشا يهزم الجــــــــــبلُ
وحيدا قاتل الاعـــداء ورد جمـــــــوعهم ردا
ثلاث قذائفَ انفـــجرت ومافتت لـــه عضــدا
ومن أوكارهم خرجت رصاصات بها الوهنُ
ولكن كل مخلوق بيوم المـــوت مرتهـــــــنُ
فلم يسمع له صوتُ يقول بأنني متُّ
ولكن صاح في فرحٍ بإحداهن قد فزتُ
أخي الحبيب : قد يسأل سائل ويقول اليس ما فعله الوكواك تهورا ؟؟ اليس هذا القاء بالنفس في التهلكة ؟؟
اعلم أخي أن العلماء قد تكلموا فيمن يقوم بأعمال بطولية مثل هذه الأعمال التي قام بها عيس الوكواك رحمه الله.
فمن ذلك الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى، حيث قال: (لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل وإن عَلم أنه يُقتل.... لكن لو علم أنه لا نكاية لهجومه على الكفار - كالأعمى يطرح نفسه على الصف أو العاجز - فذلك حرام، وداخل تحت عموم آية التهلكة، وإنما جاز له الإقدام إذا علم أنه لا يُقتل حتى يَقتل، أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جرأته واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة وحبهم للشهادةفي سبيل الله، فتُكسر بذلك شوكتهم)
وقال الرافعي والنووي وغيرهما: (التغرير بالنفس في الجهاد جائز).
وقال ابن خويز منداد من المالكية: (فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة من العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج، فلذلك حالتان: إن علم وغلب على ظنه أنه سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أنه يقتل ولكن سينكي نكاية أو يؤثر أثراً ينتفع به المسلمون فجائز أيضاً).
وقال محمد بن الحسن، وهو من الأحناف: (لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده، لم يكن بذلك بأس، إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك؛ فهو مكروه، لأنه عرض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين، فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه؛ فلا يبعد جوازه، لأن فيه نفعاً للمسلمين على بعض الوجوه، فإن كان قصده إرهاب العدو ليعلم العدو صلابة المسلمين في الدين؛ فلا يبعد جوازه، وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت النفس لإعزاز دين الله وتوهين الكفر؛ فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} ، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه).
وسئل الإمام أحمد رحمه الله: الأسير يجد السيف والسلاح، فيحمل عليهم وهو يعلم أنه لا ينجو، أعان على نفسه؟ قال: (أما سمعت قول عمر حين سأله الرجل فقال: إن أبي أو خالي ألقى بيده إلى التهلكة؟ فقال عمر: ذاك اشترى الآخرة بالدنيا).
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: (لا أرى ضيقاً على الرجل أن يحمل على الجماعة حاسراً أو يبادر الرجل، وإن كان الأغلب أنه مقتول، لأنه قد بودر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمل رجل من الأنصار حاسراً على جماعة من المشركين يوم بدر بعد إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بما في ذلك من الخير فقتل).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وقد روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قصة أصحاب الأخدود، وفيها؛ أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين، ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه، إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين، وقد بسطنا القول في هذه المسألة في موضع آخر، فإن كان الرجل يفعل ما يعتقد أنه يقتل به لأجل مصلحة الجهاد، مع أن قتله نفسه أعظم من قتله لغيره؛ كان ما يفضي إلى قتل غيره لأجل مصلحة الدين التي لا تحصل إلا بذلك، ودفع ضرر العدو المفسد للدين والدنيا، الذي لا يندفع إلا بذلك أولى).
إرسال تعليق